الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: البحر المحيط في تفسير القرآن العظيم (نسخة منقحة)
.تفسير الآيات (99- 114): {كَذَلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ مَا قَدْ سَبَقَ وَقَدْ آَتَيْنَاكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْرًا (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وِزْرًا (100) خَالِدِينَ فِيهِ وَسَاءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حِمْلًا (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَنَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقًا (102) يَتَخَافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْرًا (103) نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَا يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْمًا (104) وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الْجِبَالِ فَقُلْ يَنْسِفُهَا رَبِّي نَسْفًا (105) فَيَذَرُهَا قَاعًا صَفْصَفًا (106) لَا تَرَى فِيهَا عِوَجًا وَلَا أَمْتًا (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لَا عِوَجَ لَهُ وَخَشَعَتِ الْأَصْوَاتُ لِلرَّحْمَنِ فَلَا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْسًا (108) يَوْمَئِذٍ لَا تَنْفَعُ الشَّفَاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ وَرَضِيَ لَهُ قَوْلًا (109) يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْمًا (110) وَعَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَقَدْ خَابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْمًا (111) وَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحَاتِ وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَا يَخَافُ ظُلْمًا وَلَا هَضْمًا (112) وَكَذَلِكَ أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا وَصَرَّفْنَا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْرًا (113) فَتَعَالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَلَا تَعْجَلْ بِالْقُرْآَنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا (114)}نسف ينسف بكسر سين المضارع وضمها نسفاً فرّق وذرى. وقال ابن الأعرابي: قلع من الأصل. الزرقة: لون معروف، يقال: زرقت عينه وازرَّقت وازراقت، القاع قال ابن الأعرابي: الأرض الملساء لا نبات فيها ولا بناء. وقال الجوهري: المستوي من الأرض. ومنه قول ضرار بن الخطاب:والجمع أقوع وأقواع وقيعان. وحكى مكي أن القاع في اللغة المكان المنكشف. وقال بعض أهل اللغة: القاع مستنقع الماء. الصفصف: المستوى الأملس. وقيل: الذي لا نبات فيه، وهو مضاعف كالسبسب. الأمت: التل. والعوج: التعوج في الفجاج قاله ابن الأعرابي. الهمس: الصوت الخفي قاله أبو عبيدة. وقيل: وطء الأقدام. قال الشاعر: ويقال للأسد الهموس لخفاء وطئه، ويقال همس الطعام مضغه. عنا يعنو: ذل وخضع، وأعناه غيره أذلة. وقال أمية بن أبي الصلت: الهضم: النقص تقول العرب: هضمت لك حقي أي حططت منه، ومنه هضيم الكشحين أي ضامرهما وفي الصحاح: رجل هضيم ومتهضم مظلوم وتهضمه واهتضمه ظلمه. وقال المتوكل الليثي: {كذلك نقص عليك من أنباء ما قد سبق وقد آتيناك من لدنا ذكراً من أعرض عنه فإنه يحمل يوم القيامة وزراً خالدين فيه وساء لهم يوم القيامة حملاً يوم ينفخ في الصور ونحشر المجرمين يومئذ زرقاً يتخافتون بينهم إن لبثتم إلا عشراً نحن أعلم بما يقولون إذ يقول أمثلهم طريقة إن لبثتم إلا يوماً ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفاً فيذرها قاعاً صفصفاً لا ترى فيها عوجاً ولا أمتاً يومئذ يتبعون الداعي لا عوج له وخشعت الأصوات للرحمن فلا تسمع إلا همساً يومئذ لا تنفع الشفاعة إلا من أذن له الرحمن ورضي له قولاً يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون به علماً وعنت الوجوه للحي القيوم وقد خاب من حمل ظلماً ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمن فلا يخاف ظلماً ولا هضماً وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً وصرفنا فيه من الوعيد لعلهم يتقون أو يحدث لهم ذكراً فتعالى الله الملك الحق ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يقضى إليك وحيه وقل رب زدني علماً}.ذلك إشارة إلى نبأ موسى وبني إسرائيل وفرعون أي كقصنا هذا النبأ الغريب نقص عليك من أنباء الأمم السابقة، وهذا فيه ذكر نعمة عظيمة وهي الإعلام بأخبار الأمم السالفة ليتسلى بذلك ويعلم أن ما صدر من الأمم لرسلهم وما قاست الرسل منهم، والظاهر أن الذكر هنا القرآن امتن تعالى عليه بإيتائه الذكر المشتمل على القصص والأخبار الدال ذلك على معجزات أوتيها.وقال مقاتل: {ذكراً} بياناً. وقال أبو سهل: شرفاً وذكراً في الناس.{من أعرض عنه} أي عن القرآن بكونه لم يؤمن به ولم يتبع ما فيه. وقرأ الجمهور {يحمل} مضارع حمل مخففاً مبنياً للفاعل. وقرأت فرقة منهم داود بن رفيع: يُحَمِّل مشدد الميم مبنياً للمفعول لأنه يكلف ذلك لا أنه يحمله طوعاً و{وزراً} مفعول ثان و{وزراً} ثقلاً باهظاً يؤده حمله وهو ثقل العذاب. وقال مجاهد: إثماً. وقال الثوري شركاً والظاهر أنه عبَّر عن العقوبة بالوزر لأنه سببها ولذلك قال {خالدين فيه} أي في العذاب والعقوبة وجمع خالدين، والضمير في {لهم} حملاً على معنى من بعد الحمل على لفظها في أعرض وفي فإنه يحمل، والمخصوص بالذم محذوف أي وزرهم و{لهم} للبيان كهي في {هيت لك} لا متعلقة بساء {وساء} هنا هي التي جرت مجرى بئس لا ساء التي بمعنى أحزن وأهم لفساد المعنى.ويوم ننفخ بدل من يوم القيامة. وقرأ الجمهور {يُنفخ} مبنياً للمفعول {ونحشر} بالنن مبنياً للفاعل بنون العظمة. وقرأ أبو عمرو وابن محيصن وحميد: ننفخ بنون العظمة لنحشر أسند النفخ إلى الآمرية، والنافخ هو إسرافيل ولكرامته أسند ما يتولاه إلى ذاته المقدسة و{الصور} تقدم الكلام فيه في الأنعام. وقرئ يَنْفُخُ ويَحْشُرُ بالياء فيهما مبنياً للفاعل. وقرأ الحسن وابن عياض في جماعة {في الصور} على وزن درر والحسن: يُحْشَرُ، بالياء مبنياً للمفعول، ويَحْشُرُ مبنياً للفاعل، وبالياء أي ويحشر الله. والظاهر أن المراد بالزرق زرقة العيون، والزرقة أبغض ألوان العيون إلى العرب لأن الروم أعداؤهم وهم زرق العيون، ولذلك قالوا في صفة العدو: أسود الكبد، أصهب السبال، أزرق العين. وقال الشاعر: وقد ذكر في آية أخرى أنهم يحشرون سود الوجوه، فالمعنى تشويه الصورة من سواد الوجه وزرقة العين وأيضاً فالعرب تتشاءم بالزرقة. قال الشاعر: وقيل: المعنى عمياً لأن العين إذا ذهب نورها ازرقَّ ناظرها، وبهذا التأويل يقع الجمع بين قوله {زرقاً} في هذه الآية و{عمياً} في الآية الأخرى. وقيل: زرق ألوان أبدانهم، وذلك غاية في التشويه إذ يجيؤن كلون الرماد وفي كلام العرب يسمى هذا اللون أزرق، ولا تزرق الجلود إلا من مكابدة الشدائد وجفوف رطوبتها. وقيل: {زرقاً} عطاشاً والعطش الشديد يرد سواد العين إلى البياض، ومنه قولهم سنان أزرق وقوله: أي ابيض، وذكرت الآيتان لابن عباس فقال: ليوم القيامة حالات فحالة يكونون فيها زرقاً وحالة يكونون عمياً.{يتخافتون} يتسارّون لهول المطلع وشدة ذهاب أذهانهم قد عزب عنهم قدر المدة التي لبثوا فيها {إن لبثتم} أي في دار الدنيا أو في البرزح أو بين النفختين في الصور ثلاثة أقوال، ووصف ما لبثوا فيه بالقصر لأنها لما يعاينون من الشدائد كانت لهم في الدنيا أيام سرور، وأيام السرور قصار أو لذهابها عنهم وتقضيها، والذاهب وإن طالت مدته قصير بالانتهاء، أو لاستطالتهم الآخرة وأنها أبد سرمد يستقصر إليها عمر الدنيا، ويقال لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة و{إذ} معمولة لأعلم.و{أمثلهم} أعدلهم. و{طريقة} منصوبة على التمييز. {إلاّ يوماً} إشارة لقصر مدة لبثهم. و{إلا عشراً} يحتمل عشر ليال أو عشرة أيام، لأن المذكر إذا حذف وأبقي عدده قد لا يأتي بالتاء. حكى الكسائي عن أبي الجراح: صمنا من الشهر خمساً، ومنه ما جاء في الحديث ثم أتبعه بست من شوال، يريد ستة أيام وحسن الحذف هنا كون ذلك فاصلة رأس آية ذكر أولاً منتهى أقل العدد وهو العشر، وذكر أعدلهم طريقة أقل العدد، وهو اليوم الواحد ودل ظاهر قوله {إلاّ يوماً} على أن المراد بقولهم {عشراً} عشرة أيام.وضمير الغائب في {ويسألونك} عائد على قريش منكري البعث أو على المؤمنين سألوا عن ذلك، أو على رجل من ثقيف وجماعة من قومه أقوال ثلاثة. والكاف خطاب للرّسول صلى الله عليه وسلم، والظاهر وجود السؤال ويبعد قول من قال إنه لم يكن سؤال بل المعنى أن يسألوك {عن الجبال فقل} فضمن معنى الشرط، فلذلك أجيب بالفاء وروي أن الله يرسل على الجبال ريحاً فيدكدكها حتى تكون كالعهن المنفوش، ثم يتوالى عليها حتى يعيدها كالهباء المنبث فذلك هو النسف، والظاهر عود الضمير في {فيذرها} على الجبال أي بعد النسف تبقى {قَاعاً} أي مستوياً من الأرض معتدلاً. وقيل فيذر مقارها ومراكزها. وقيل: يعود على الأرض وإن لم يجر لها ذكر لدلالة الجبال عليها.وقال ابن عباس {عوجاً} ميلاً {ولا أمتاً} أثراً مثل الشراك. وعنه أيضاً {عوجاً} وادياً {ولا أمتاً} رابية. وعنه أيضاً الأمت الارتفاع. وقال قتادة {عوجاً} صدعاً {ولا أمتاً} أكمة. وقيل: الأمت الشقوق في الأرض. وقيل: غلظ مكان في الفضاء والجبل ويرق في مكان حكاه الصولي. وقيل: كان الأمت في الآية العوج في السماء تجاه الهواء، والعوج في الأرض مختص بالأرض.وقال الزمخشري: فإن قلت: قد فرقوا بين العوج والعوج فقالوا: العِوَج بالكسر في المعاني، والعَوَج بالفتح في الأعيان والأرض، فكيف صح فيها المكسور العين؟ قلت: اختيار هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء والملاسة ونفي الاعوجاج عنها على أبلغ ما يكون، وذلك أنك لو عمدت إلى قطعة أرض فسوّيتها وبالغت في التسوية على عينك وعيون البصراء من الفلاحة، واتفقتم على أن لم يبق فيها اعوجاج قط ثم استطلعت رأي المهندس فيها وأمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسية لعثر فيها على عوج في غير موضع لا يدرك بذلك بحاسة البصر، ولكن بالقياس الهندسي فنفى الله عز وجل ذلك العوج الذي دق ولطف عن الإدراك اللهم إلا بالقياس الذي يعرفه صاحب التقدير والهندسة، وذلك الاعوجاج لما لم يدرك إلاّ بالقياس دون الإحساس لحق بالمعاني فقيل فيه عوج بالكسر.الأمت النتوء اليسير، يقال: مدّ حبله حتى ما فيه أمت انتهى.{يومئذ} أي يوم إذ ينسف الله الجبال {يتبعون} أي الخلائق {الداعي} داعي الله إلى المحشر نحو قوله {مهطعين إلى الداع} وهو إسرافيل يقوم على صخرة بيت المقدس يدعو الناس فيقبلون من كل جهة يضع الصور في فيه، ويقول: أيتها العظام البالية والجلود المتمزقة واللحوم المتفرّقة هلم إلى العرض على الرحمن. وقال محمد بن كعب: يجمعون في ظلمة قد طويت السماء وانتثرت النجوم فينادي مناد فيموتون موته. وقال عليّ بن عيسى {الداعي} هنا الرسول صلى الله عليه وسلم الذي كان يدعوهم إلى الله فيعوجون على الصراط يميناً وشمالاً ويميلون عنه ميلاً عظيماً، فيومئذ لا ينفعهم اتباعه، والظاهر أن الضمير في {له} عائد على {الداعي} نفى عنه العوج أي {لا عوج} لدعائه يسمع جميعهم فلا يميل إلى ناس دون ناس. وقيل: هو على القلب أي {لا عوج} لهم عنه بل يأتون مقبلين إليه متبعين لصوته من غير انحراف. وقال الزمخشري: أي لا يعوج له مدعوّ بل يستوون إليه انتهى. وقيل {لا عوج له} في موضع وصف لمنعوت محذوف أي اتباعاً {لا عوج له} فيكون الضمير في {له} عائداً على ذلك المصدر المحذوف. وقال ابن عطية يحتمل أن يريد به الإخبار أي لا شك فيه، ولا يخالف وجوده خبره ويحتمل أن يريد لا محيد لأحد عن اتباعه، والمشي نحو صوته والخشوع التطامن والتواضع وهو في الأصوات استعارة بمعنى الخفاء. والاستسرار للرحمن أي لهيبة الرحمن وهو مطلع قدرته. وقيل هو على حذف مضاف أي وخشع أهل الأصوات والهمس الصوت الخفي الخافت، ويحتمل أن يريد بالهمس المسموع تخافتهم بينهم وكلامهم السر، ويحتمل أن يريد صوت الأقدام وأن أصوات النطق ساكنة.وقال الزمخشري: {إلا همساً} وهو الركز الخفي ومنه الحروف المهموسة. وقيل: هو من همس الإبل وهو صوت إخفافها إذا مشت، أي لا يسمع إلا خَفْقُ الأقدام ونقلها إلى المحشر انتهى. وعن ابن عباس وعكرمة وابن جبير: الهمس وطء الإقدام، واختاره الفراء والزجاج وعن ابن عباس أيضاً تحريك الشفاه بغير نطق، وعن مجاهد الكلام الخفي ويؤيده قراءة أُبَيّ فلا ينطقون {إلا همساً} وعن أبي عبيدة الصوت الخفي يومئذ بدل من {يومئذ يتبعون} أو يكون التقدير يوم إذ {يتبعون} ويكون منصوباً بلا تنفع و{منْ} مفعول بقوله {لا تنفع}. و{له} معناه لأجله وكذا في ورضي له أي لأجله، ويكون من للمشفوع له أو بدل من الشفاعة على حذف مضاف أي إلاّ شفاعة من أذن له أو منصوب على الاستثناء على هذا التقدير، أو استثناء منقطع فنصب على لغة الحجاز، ورفع على لغة تميم، ويكون {من} في هذه الأوجه للشافع والقول المرضي عن ابن عباس لا إله إلا الله.والظاهر أن الضمير في {أيديهم وما خلفهم} عائد على الخلق المحشورين وهم متبعو الداعي. وقيل: يعود على الملائكة. وقيل: على الناس لا بقيد الحشر والاتباع، وتقدم تفسير هذه الجملة في آية الكرسي في البقرة، والضمير في {به} عائد على {ما} أي {ولا يحيطون} بمعلوماته {علماً} والظاهر عموم {الوجوه} أي وجوه الخلائق، وخص {الوجوه} لأن آثار الذل إنما تظهر في أول {الوجوه}. وقال طلق بن حبيب: المراد سجود الناس على الوجوه والآراب السبعة، فإن كان روى أن هذا يكون يوم القيامة فتكون الآية إخباراً عنه، واستقام المعنى وإن كان أراد في الدنيا فليس ذلك بملائم للآيات التي قبلها وبعدها. وقال الزمخشري: المراد بالوجود وجوه العصاة وأنهم إذا عاينوا يوم القيامة الخيبة والشقوة وسوء الحساب صارت وجوههم عانية أي ذليلة خاضعة مثل وجوه العناة وهم الأسارى ونحوه {فلما رأوه زلفة سيئت وجوه الذين كفروا} {ووجوه يومئذ باسرة} و{القيوم} تقدم الكلام عليه في البقرة.{وقد خاب} أي لم ينجح ولا ظفر بمطلوبه، والظلم يعم الشرك والمعاصي وخيبة كل حامل بقدر ما حمل من الظلم، فخيبة المشرك دائماً وخيبة المؤمن العاصي مقيدة بوقت في العقوبة إن عوقب. ولما خص الزمخشري الوجوه بوجوه العصاة قال في قوله {وقد خاب من حمل ظلماً} أنه اعتراض كقولك: خابوا وخسروا حتى تكون الجملة دخلت بين العصاة وبين من يعمل من الصالحات، فهذا عنده قسيم {وعنت الوجوه}. وأما ابن عطية فجعل قوله {ومن يعمل}- إلى- {هضماً} معادلاً لقوله {وقد خاب من حمل ظلماً} لأنه جعل {وعنت الوجوه} عامة في وجوه الخلائق. و{من الصالحات} بيسير في الشرع لأن {من} للتبعيض والظلم مجاوزة الحد في عظم سيئاته، والهضم نقص من حسناته قاله ابن عباس. وقال قتادة: الظلم أن يزاد من ذنب غيره. وقال ابن زيد: الظلم أن لا يجزى بعمله. وقيل: الظلم أن لا يجزى بعمله، وقيل: الظلم أن يأخذ من صاحبه فوق حقه، والهضم أن يكسر من حق أخيه فلا يوفيه له كصفة المطفقين يسترجحون لأنفسهم إذا اكتالوا ويخسرون إذا كالوا انتهى. والظلم والهضم متقاربان. قال الماوردي: والفرق أن الظلم منع الحق كله والهضم منع بعضه.وقرأ الجمهور {فلا يخاف} على الخبر أي فهو لا يخاف. وقرأ ابن كثير وابن محيصن وحميد فلا يَخَفْ على النهي {وكذلك} عطف على كذلك نقص أي ومثل ذلك الإنزال أو كما أنزلنا عليك هذه الآيات المضمنة الوعيد أنزلنا القرآن كله على هذه الوتيرة مكررين فيه آيات الوعيد ليكونوا بحيث يراد منهم ترك المعاصي أو فعل الخير والطاعة، والذكر يطلق على الطاعة والعبادة.وقيل: كما قدرنا هذه الأمور وجعلناها حقيقة بالمرصاد للعباد كذلك حذرنا هؤلاء أمرها و{أنزلناه قرآناً عربياً} وتوعدنا فيه بأنواع {من الوعيد لعلهم} بحسب توقع الشر وترجيهم {يتقون} الله ويخشون عقابه فيؤمنون ويتذكرون نعمه عندهم، وما حذرهم من أليم عقابه هذا تأويل فرقة في قوله {أو يحدث لهم ذكراً} وقالت فرقة: معناه أو يكسبهم شرفاً ويبقي عليهم إيمانهم ذكراً صالحاً في الغابرين. وقيل: المعنى كما رغبنا أهل الإيمان بالوعد حذرنا أهل الشرك بالوعيد {وصرّفنا فيه من الوعيد} كالطوفان والصيحة والرجفة والمسخ، ولم يذكر الوعد لأن الآية سيقت مساق التهديد {لعلهم يتقون} أي ليكونوا على رجاء من أن يوقع في قلوبهم الاتقاء أو يتقون أن ينزل بهم ما نزل بمن تقدّمهم أي {يحدث لهم ذكراً} أي عظة وفكراً واعتباراً. وقال قتادة: ورعاً. وقيل: أنزل القرآن ليصيروا محترزين عمالاً ينبغي {أو يحدث لهم ذكراً} يدعوهم إلى الطاعات، وأسند ترجي التقوى إليهم وترجي إحداث الذكر للقرآن لأن التقوى عبارة عن انتفاء فعل القبيح، وذلك استمرار على العدم الأصلي فلم يسند القرآن وأسند إحداث الذكر إلى القرآن لأنه أمر حدث بعد أن لم يكن والظاهر أن أو هنا لأحد الشيئين. قيل: {أو} كهي في جالس أو ابن سيرين أي لا تكن خالياً منهما. وقرأ الحسن {أو يحدث} ساكنة الثاء. وقرأ عبد الله ومجاهد وأبو حيوة والحسن في رواية والجحدري وسلام، أو نحدث بالنون وجزم الثاء، وذلك حمل وصل على وقف أو تسكين حرف الإعراب استثقالاً لحركته نحو قول جرير: ولما كان فيما سبق تعظيم القرآن في قوله {وقد آتيناك من لدنّا ذكراً} {وكذلك أنزلناه قرآناً عربياً} ذكر عظمة منزله تعالى ثم ذكر هاتين الصفتين وهي صفة {الملك} التي تضمنت القهر، والسلطنة والحق وهي الصفة الثابتة له إذ كل من يدعي إلهاً دونه باطل لاسيما الإله الذي صاغوه من الحلي ومضمحل ملكه ومستعار، وتقدّم أيضاً صفة سلطانه يوم القيامة وعظم قدرته وذلة عبيده وحسن تلطفه بهم، فناسب تعاليه ووصفه بالصفتين المذكورتين، ولما ذكر القرآن وإنزاله قال على سبيل الاستطراد طالباً منه التأني في تحفظ القرآن {ولا تعجل بالقرآن من قبل أن يُقْضَى إليك وحيه} أي تأن حتى يفرغ الملقى إليك الوحي ولا تساوق في قراءتك قراءته وإلقاءه، كقوله تعالى {لا تحرك به لسانك لتعجل به} وقيل: معناه لا تبلغ ما كان منه مجملاً حتى يأتيك البيان.وقيل: سبب الآية أن امرأة شكت إلى النبي صلى الله عليه وسلم أن زوجها لطمها، فقال لها «بينكما القصاص» ثم نزلت {الرجال قوامون على النساء} ونزلت هذه بمعنى الأمر بالتثبت في الحكم بالقرآن.وقيل: كان إذا نزل عليه الوحي أمر بكتبه للحين، فأمر أن يتأنى حتى يفسر له المعاني ويتقرر عنده. وقال الماوردي: معناه ولا تسأل قبل أن يأتيك الوحي إن أهل مكة وأسقف نجران قالوا: يا محمد أخبرنا عن كذا وقد ضربنا لك أجلاً ثلاثة أيام فأبطأ الوحي عليه، وفشت المقالة بين اليهود قد غلب محمد فنزلت {ولا تعجل بالقرآن} أي بنزوله. وقال أبو مسلم {ولا تعجل} بقراءته في نفسك أو في تأديته إلى غيرك أو في اعتقاد ظاهره أو في تعريف غيرك ما يقتضيه ظاهره احتمالات.{من قبل أن يقضى إليك وحيه} أي تمامه أو بيانه احتمالات، فالمراد إذاً أن لا ينصب نفسه ولا غيره عليه حتى يتبين بالوحي تمامه أو بيانه أو هما جميعاً، لأنه يجب التوقف في المعنى لما يجوز أن يحصل عقيبه من استثناء أو شرط أو غيرهما من المخصصات، وهذه العجلة لعله فعلها باجتهاده عليه السلام انتهى. وفيه بعض تلخيص.وقرأ الجمهور: {يُقضى إليك} مبنياً للمفعول {وحيه} مرفوع به. وقرأ عبد الله والجحدري والحسن وأبو حيوة ويعقوب وسلام والزعفراني وابن مقسم نقضي بنون العظمة مفتوح الياء وحيه بالنصب. وقرأ الأعمش كذلك إلا أنه سكن الياء من يقضي. قال صاحب اللوامح: وذلك على لغة من لا يرى فتح الياء بحال إذا انكسر ما قبلها وحلت طرفاً انتهى.{وقل رب زدني علماً} قال مقاتل أي قرآناً. وقيل: فهماً. وقيل: حفظاً وهذا القول متضمن للتواضع لله والشكر له عند ما علم من ترتيب التعلم أي علمتني مآرب لطيفة في باب التعلم وأدباً جميلاً ما كان عندي، فزدني علماً. وقيل: ما أمر الله رسوله بطلب الزيادة في شيء إلاّ في طلب العلم.
|